فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري، وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين: أحدهما: الجمع بين ساكنين على غير حده.
الثاني: إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفًا، لأن ذلك هو طريق الهمزة الساكنة، وما قاله هو مذهب البصريين، وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون.
وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة القرآن. اهـ.

.قال الفخر:

اتفقوا على أن الفعل لا يخبر عنه، لأن من قال: خرج ضرب لم يكن آتيًا بكلام منتظم، ومنهم من قدح فيه بوجوه: أحدها: أن قوله: {ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} فعل وقد أخبر عنه بقوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} ونظيره قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} [يوسف: 35] فاعل {بدا} هو {ليسجننه} وثانيها: أن المخبر عنه بأنه فعل لابد وأن يكون فعلًا، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل فإن قيل: المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم قلنا فعلى هذا: المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلًا بل إسمًا كان هذا الخبر كذبًا، والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسمًا أو لا يكون، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذبًا، لأن الاسم لا يكون فعلًا، وإن كان فعلًا فقد صار الفعل مخبرًا عنه وثالثها: أنا إذا قلنا: الفعل لا يخبر عنه فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسمًا لزم أنا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه، وهذا خطأ وإن كان فعلًا صار الفعل مخبرًا عنه ثم قال هؤلاء: لما ثبت أنه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجة إلى ترك الظاهر.
أما جمهور النحويين فقد أطبقوا على أنه لا يجوز الإخبار عن الفعل، فلا جرم كان التقدير: سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك، فإن قيل العدول عن الحقيقة إلى المجاز لابد وأن يكون لفائدة زائدة إما في المعنى أو في اللفظ فما تلك الفائدة ههنا؟ قلنا قوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} معناه سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لهم بعد ذلك لأن القوم كانوا قد بلغوا في الإصرار واللجاج والإعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم ألبتة رجاء القبول بوجه.
وقبل ذلك ما كانوا كذلك، ولو قال سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد أن هذا المعنى إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله، ولما قال: {ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أفاد أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم، وقد بينا أن المقصود من هذه الآية ذلك. اهـ.
فصل: القراءات في قوله تعالى: {ءأَنذَرْتَهُمْ}:
قال الفخر:
في قوله: {ءأَنذَرْتَهُمْ} ست قراءات: إما بهمزتين محققتين بينهما ألف، أولا ألف بينهما، أو بأن تكون الهمزة الأولى قوية والثانية بين بين بينهما ألف، أولا ألف بينهما وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرئ: {قد أفلح} فإن قيل: فما تقول فيمن يقلب الثانية ألفًا؟ قال صاحب الكشاف: هو لاحن خارج عن كلام العرب. اهـ.
قوله تعالى: {أَأَنذَرْتَهُمْ}.
الإنذار هو التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة؛ لأن اشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة، وهذا الموضع موضع المبالغة وكان ذكر الإنذار أولى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَأَنذَرْتَهُمْ} الإنذار الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتّسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعارًا ولم يكن إنذارًا؛ قال الشاعر:
أنذرتَ عَمرًا وهو في مَهَلٍ ** قبلَ الصباح فقد عصى عَمْرُو

وتَناذَر بنو فلان هذا الأمر إذا خَوَّفه بعضُهم بعضًا.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقّت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره.
أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعيّن أحدًا.
وقال ابن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود، منهم حُيَيُّ بن أَخْطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما.
وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب؛ والأوّل أصح، فإن من عيّن أحدًا فإنما مثّل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر، وذلك داخل في ضمن الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لاَ يُؤْمِنُونَ} الأظهر أن هاته الجملة مسوقة لتقرير معنى الجملة التي قبلها وهي {سواء عليهم أأنذرتهم} الخ فلك أن تجعلها خبرًا ثانيًا عن إنّ واستفادة التأكيد من السياق ولك أن تجعلها تأكيدًا وعلى الوجهين فقد فصلت إما جوازًا على الأول وإما وجوبًا على الثاني، وقد فرضوا في إعرابها وجوهًا أُخر لا نكثر بها لضعفها، وقد جوز في الكشاف جعْل جملة {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} اعتراضًا لجملة {لا يؤمنون} وهو مرجوح لم يرتضه السعد والسيد، إذ ليس محل الإخبار هو {لا يؤمنون} إنما المهم أن يخبر عنهم باستواء الإنذار وعدمه عندهم، فإن في ذلك نداء على مكابرتهم وغباوتهم، وعذرًا للنبيء صلى الله عليه وسلم في الحرص على إيمانهم، وتسجيلًا بأن من لم يفتح سمعه وقلبه لتلقي الحق والرشاد لا ينفع فيه حرص ولا ارتياد، وهذا وإن كان يحصل على تقديره جعل {لا يؤمنون} خبرًا إلا أن المقصود من الكلام هو الأوْلى بالإخبار، ولأنه يصير الخبر غير معتبر إذ يصير بمثابة أن يقال إن الذين كفروا لا يؤمنون، فقد عُلم أنهم كفروا فعدم إيمانهم حاصل، وإن كان المراد من {لا يؤمنون} استمرار الكفر في المستقبل إلا أنه خبر غريب بخلاف ما إذا جعل تفسيرًا للخبر. اهـ.

.قال السمرقندي:

سؤال: فإن قيل: إذا علم أنهم لا يؤمنون، فما معنى دعوتهم إلى الإسلام؟
قيل له: لأن في الدعوة زيادة الحجة عليهم، كما أن الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن.
وجواب آخر: أن الآية خاصة، وليست بعامة، وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم، كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت: رجع أبي وعمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى في هذا الرجل؟ فقال: إنه نبي، فقال: ما رأيك في اتباعه؟ فقال: رأيي أن لا أتبعه، وأن أظهر له العداوة إلى الموت. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}.
من كان في غطاء وصفه محجوبًا عن شهود حقه فالإشارة لنعته أنه سيان عنده قول من دلَّه على الحق، وقول من أعانه على استجلاب الحظ، بل هو إلى دواعي الغفلة أميل، وفي الإصغاء إليها أرغب. كيف لا؟ وهو بِكَيِّ الفرقة موسوم، وفي سجن الغيبة محبوس، وعن محل القربة ممنوع، لا يحصل منهم إيمان، لأنه ليس لهم من الحق أمان؛ فلمَّا لم يؤمنوا لم يؤمِنوا. حكم سبق من الله حتم، وقول له فصل، وإن القدرة لا تُعارَض، ومن زاحم الحق في القضية كبسته سطوات العزة، وقَصَمتهْ بواده الحكم.
ويقال إن الكافر لا يرعوي عن ضلالتهِ لِمَا سَبَق من شقاوته، وكذلك المربوط بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه، فهو لا يبصر رشده، ولا يسلك قصده. ويقال إن الذي بقي في ظلمات رعونته سواء عنده نصح المرشدين وتسويلات المُبْطِلين، لأن الله سبحانه وتعالى نزع عن أحواله بركاتِ الإنصاف، فلا يدرك بسمع القبول، ولا يُصغي إلى داعي الرشاد، كما قيل:
وعلى النصوح نصيحتي ** وعليَّ عصيان النصوح

ويقال من ضلَّ عن شهود المِنَّةِ عليه في سابق القسمة تَوَهَّمَ أن الأمر من حركاته وسَكَنَاته فاتَّكَلَ على أعماله، وتعامى عن شهود أفضاله. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص. اهـ.

.قال الفخر:

احتج أهل السنّة بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [يس: 7] وقوله: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] إلى قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17] وقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1] على تكليف ما لا يطاق، وتقريره أنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر لله تعالى الصدق كذبًا، والكذب عند الخصم قبيح وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة، وهما محالان على الله، والمفضي إلى المحال محال، فصدور الإيمان منه محال فالتكليف به تكليف بالمحال، وقد يذكر هذا في صورة العلم، هو أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله تعالى جهلًا، وذلك محال ومستلزم المحال محال.
فالأمر واقع بالمحال.
ونذكر هذا على وجه ثالث: وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان؛ لأنه إنما يكون علمًا لو كان مطابقًا للمعلوم، والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقًا لو حصل عدم الإيمان، فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجودًا ومعدومًا معًا وهو محال، فالأمر بالإيمان مع وجود علم الله تعالى بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضدين، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود، وكل ذلك محال ونذكر هذا على وجه رابع: وهو أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون بالإيمان ألبتة، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات، ونذكر هذا على وجه خامس: وهو أنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} [الفتح: 15] فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى، وذلك منهي عنه.
ثم هاهنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون ألبتة فمحاولة الإيمان منهم تكون قصدًا إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه، وترك محاولة الإيمأن يكون أيضًا مخالفة لأمر الله تعالى، فيكون الذم حاصلًا على الترك والفعل، فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع، وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال.
ولقد كان السلف والخلف من المحققين معولين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم، ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع، وأنا أذكر أقصى ما ذكروه بعون الله تعالى وتوفيقه: قالت المعتزلة: لنا في هذه الآية مقامان:
المقام الأول: بيان أنه لا يجوز أن يكون علم الله تعالى وخبر الله تعالى عن عدم الإيمان مانعًا من الإيمان.
المقام الثاني: بيان الجواب العقلي على سبيل التفصيل:
أما المقام الأول فقالوا: الذي يدل عليه وجوه:
أحدها: أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان قال: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى} [الإسراء: 94] وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومعلوم أن رجلًا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثم يقول ما منعك من التصرف في حوائجي كان ذلك منه مستقبحًا وكذا قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ} [الأعراف: 12] وقوله لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [النساء: 39] وقول موسى لأخيه: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ} [طه: 92] وقوله: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] {لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب: كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أنى تصرفون؟ ويخلق فيهم الإفك ثم يقول أنى تؤفكون؟ وأنشأ فيهم الكفر ثم يقوم لم تكفرون؟ وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول: {لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} [آل عمران: 71] وصدهم عن السبيل ثم يقول: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [آل عمران: 99] وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ} وذهب بهم عن الرشد ثم قال: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49].
وثانيها: أن الله تعالى قال: {رُّسُلًا مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [السناء: 165] وقال: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءاياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134] فلما بين أنه ما أبقي لهم عذرًا إلا وقد أزاله عنهم، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعًا لهم عن الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم فلما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مانع.
وثالثها: أنه تعالى حكى عن الكفار في سورة {حم} السجدة أنهم قالوا: قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر، وإنما ذكر الله تعالى ذلك ذمًا لهم في هذا القول، فلو كان العلم مانعًا لكانوا صادقين في ذلك فلم ذمهم عليه؟
ورابعها: أنه تعالى أنزل قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} إلى آخره ذمًا لهم وزجرًا عن الكفر وتقبيحًا لفعلهم، فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه لما استحقوا الذم ألبتة، بل كانوا معذورين كما يكون الأعمى معذورًا في أن لا يمشي.
وخامسها: القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله عليهم، لا أن يكون لهم حجة على الله وعلى رسوله، فلو كان العلم والخبر مانعًا لكان لهم أن يقولوا: إذا علمت الكفر وأخبرت عنه كان ترك الكفر محالًا منا، فلم تطلب المحال منا ولم تأمرنا بالمحال؟ ومعلوم أن هذا مما لا جواب لله ولا لرسوله عنه لو ثبت أن العلم والخبر يمنع.
وسادسها: قوله تعالى: {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الأنفال: 40] ولو كان مع قيام المانع عن الإيمان كلف به لما كان نعم المولى، بل كان بئس المولى ومعلوم أن ذلك كفر، قالوا: فثبت بهذه الوجوه أنه ليس عن الإيمان والطاعة مانع ألبتة، فوجب القطع بأن علم الله تعالى بعدم الإيمان وخبره عن عدمه لا يكون مانعًا عن الإيمان.
المقام الثاني: قالوا إن الذي يدل على أن العلم بعدم الإيمان لا يمنع من وجود الإيمان وجوه:
أحدها: أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يكون الله تعالى قادرًا على شيء؛ لأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع، والذي علم عدم وقوعه يكون ممتنع الوقوع، والواجب لا قدرة له عليه؛ لأنه إذا كان واجب الوقوع، لا بالقدرة فسواء حصلت القدرة أو لم تحصل كان واجب الوقوع، والذي يكون كذلك لم يكن للقدرة فيه أثر، وأما الممتنع فلا قدرة عليه، فيلزم أن لا يكون الله تعالى قادرًا على شيء أصلًا، وذلك كفر بالاتفاق فثبت أن العلم بعدم الشيء لا يمنع من إمكان وجوده.
وثانيها: أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فإن كان ممكنًا علمه ممكنًا وإن كان واجبًا علمه واجبًا، ولا شك أن الإيمان والكفر بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود، فلو صار واجب الوجود بسبب العلم كان العلم مؤثرًا في المعلوم، وقد بينا أنه محال.
وثالثها: لو كان الخبر والعلم مانعًا لما كان العبد قادرًا على شيء أصلًا؛ لأن الذي علم الله تعالى وقوعه كان واجب الوقوع، والواجب لا قدرة عليه؛ والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع، والممتنع لا قدره عليه، فوجب أن لا يكون العبد قادرًا على شيء أصلًا، فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى حركات الجمادات، والحركات الاضطرارية للحيوانات، لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك، فإن رمى إنسان إنسانًا بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي ولا نذم الآجرة، وندرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه، وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار: ولذلك فإن العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء، ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ويقولون لم فعلت ولم تركت؟ فدل على أن العلم والخبر غير مانع من الفعل والترك.
ورابعها: لو كان العلم بالعدم مانعًا للوجود لكان أمر الله تعالى للكافر بالإيمان أمرًا بإعدام علمه، وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بأن يعدموه فكذلك لا يليق به أن يأمرهم، بأن يعدموا علمه؛ لأن إعدم ذات الله وصفاته غير معقول، والأمر به سفه وعبث، فدل على أن العلم بالعدم لا يكون مانعًا من الوجود.
وخامسها: أن الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات الجائزات نظرًا إلى ذاته وعينه، فوجب أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات، إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلًا، وهو محال، وإذا علمه الله تعالى من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها ألبتة، فلو صار بسبب العلم واجبًا لزم أن يجتمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات، وكونه ليس من الممكنات وذلك محال.
وسادسها: أن الأمر بالمحال سفه وعبث، فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده أيضًا بكل أنواع السفه، فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذبين ولا إنزال الأكاذيب والأباطيل، وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء ولا بصحة القرآن، بل يجوز أن يكون كله كذبًا وسفهًا، ولما بطل ذلك علمنا أن العلم بعدم الإيمان والخبر عن عدم الإيمان لا يمنع من الإيمان.
وسابعها: أنه لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة لجاز ورود أمر الأعمى بنقط المصاحف.
والمزمن بالطيران في الهواء، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه وألقي من شاهق جبل: لم لا تطير إلى فوق؟ ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال، فثبت أن العلم بالعدم لا يمنع من الوجود، وثامنها: لو جاز ورود الأمر بذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات وإنزال الكتب عليها، وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالًا بعد حال، ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين.
وتاسعها: أن العلم بوجود الشيء لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة والإرادة، فوجب أن لا يكون الله تعالى قادرًا مريدًا مختارًا، وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب.
وعاشرها: الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم يوجد، قال الله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال.
المقام الثالث:
الجواب على سبيل التفصيل، للمعتزلة فيه طريقان:
الأول: طريقة أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، فإنا لما قلنا: لو وقع خلاف معلوم الله تعالى لانقلب علمه جهلًا قالوا خطأ: قول من يقول: إنه ينقلب علمه جهلًا، وخطأ أيضًا قول من يقول: إنه لا ينقلب، ولكن يجب الإمساك عن القولين.
والثاني: طريقة الكعبي واختيار أبي الحسين البصري: أن العلم تبع المعلوم، فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلًا عن الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلًا عن الإيمان، فهذا فرض علم بدلًا عن علم أخر، لا أنه تغير العلم.
فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة.
واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة: فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا: قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قويًا قاطعًا، وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ولا يلتفت العاقل إليهما، وسمعنا كلام المعتزلة في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جدًا فصار مجموع الكلامين كلامًا قويًا في نفي التكاليف، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات.
ومنها أن الطاعنين في القرآن قالوا: الذي قاله المعتزلة من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا منع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه، والذي قاله الجبرية: من أن العلم بعدم الإيمان مانع منه فقد صدقوا فيه، فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه، وذلك من أعظم المطاعن وأقوى القوادح فيه، ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم توسل به إلى الطعن فيه، وقال قوم من الرافضة: إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غير وبدل.
والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر.
ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا: لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة، فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر، وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة، فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة، فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال، وعند هذا قيل من تعمق في الكلام تزندق.
ومنها أن هشام بن الحكم زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها وجوز البداء على الله تعالى وقال: إن قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة، ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره، وإنما قال بهذا المذهب فرارًا من تلك الإشكالات المتقدمة.
واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن المعتزلة كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب.
بل هي جارية مجرى التشنيعات.
فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف.
أما قول أبي علي وأبي هشام والقاضي: خطأ قول من يقول إنه يدل، وخطأ قول من يقول: إنه لا يدل: إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكمًا بفساد النفي والإثبات وذلك لا يرتضيه العقل وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل كفى في دفعه تقرير وجه الاستدلال، فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم، فلو حصل الوجود معه لكان قد اجتمع العدم والوجود معًا ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه.
وأما قول الكعبي ففي نهاية الضعف، لأنا وإن كنا لا ندري أن الله تعالى كان في الأزل عالمًا بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلًا، وهو الآن أيضًا حاضر، فلو حصل مع العلم بأحد النقيضين ذلك النقيض الآخر لزم اجتماع النقيضين، ولو قيل بأن ذلك العلم لا يبقى كان ذلك اعترافًا بانقلاب العلم جهلًا، وهذا آخر الكلام في هذا البحث.
واعلم أن الكلام المعنوي هو الذي تقدم، وبقي في هذا الباب أمور أخرى إقناعية ولابد من ذكرها وهي خمسة: أحدها: روى الخطيب في كتاب تاريخ بغداد عن معاذ بن معاذ العنبري قال: كنت جالسًا عند عمرو بن عبيد فأتاه رجل فقال: يا أبا عثمان سمعت والله اليوم بالكفر، فقال: لا تعجل بالكفر، وما سمعت؟ قال: سمعت هاشمًا الأوقص يقول: إن {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1] وقوله: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] إن هذا ليس في أم الكتاب والله تعالى يقول: {حم والكتاب المبين} [الزخرف 1- 2] إلى قوله: {وَإِنَّهُ في أُمّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] فما الكفر إلا هذا يا أبا عثمان، فسكت عمرو هنيهة ثم أقبل عليّ فقال والله لو كان القول كما يقول ما كان على أبي لهب من لوم، ولا على الوليد من لوم، فلما سمع الرجل ذلك قال أتقول يا أبا عثمان ذلك، هذا والله الذي قال معاذ فدخل بالإسلام وخرج بالكفر.
وحكي أيضًا أنه دخل رجل على عمرو بن عبيد وقرأ عنده: {بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ في لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 22] فقال له أخبرني عن {تبت} أكانت في اللوح المحفوظ؟ فقال عمرو: ليس هكذا كانت، بل كانت: تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب فقال له الرجل، هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة: فغضب عمرو وقال: إن علم الله ليس بشيطان، إن علم الله لا يضر ولا ينفع.
وهذه الحكاية تدل على شك عمرو بن عبيد في صحة القرآن.
وثانيها: روى القاضي في كتاب طبقات المعتزلة عن ابن عمر، أن رجلًا قام إليه فقال: يا أبا عبد الرحمن إن أقوامًا يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويقولون كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بدًا، فغضب ثم قال سبحان الله العظيم، قد كان في علمه أنهم يفعلونها فلم يحملهم على الله على فعلها.
حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم، والأرض التي أقلتكم، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها».
واعلم أن في الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة، والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنه لا يليق بالرسول أن يقول مثل ذلك، وذلك لأنه متناقض وفاسد، أما المتناقض فلأن قوله: وكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله صريح في الجبر وما قبله صريح في القدر فهو متناقض، وأما أنه فاسد، فلأنا بينا أن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدم الإيمان تكليف بالجمع بين النفي والإثبات، أما السماء والأرض فإنهما لا ينافيان شيئًا من الأعمال، فظهر أن تشبيه إحدى الصورتين بالأخرى لا يصدر إلا عن جاهل أو متجاهل، وجل منصب الرسالة عنه.
وثالثها: الحديثان المشهوران في هذا الباب:
أما الحديث الأول: فهو ما روي في الصحيحين عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه ملكًا فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن عمرو بن عبيد أنه قال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أحببته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عز وجل يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت ميثاقنا.
وأما الحديث الثاني: فهو مناظرة آدم وموسى عليهما السلام، فإن موسى قال لآدم: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال آدم: أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه وأنزل عليك التوراة فهل تجد الله قدره علي؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى، والمعتزلة طعنوا فيه من وجوه: أحدها: أن هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذم آذم على الصغيرة وذلك يقتضي الجهل في حق موسى عليه السلام، وأنه غير جائز.
وثانيها: أن الولد كيف يشافه والده بالقول الغليظ.
وثالثها: أنه قال: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، وقد علم موسى أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة آدم، بل الله أخرجه منها، ورابعها: أن آدم عليه السلام احتج بما ليس بحجة إذ لو كان حجة لكان لفرعون وهامان وسائر الكفار أن يحتجوا بها، ولما بطل ذلك علمنا فساد هذه الحجة.
وخامسها: أن الرسول عليه السلام صوب آدم في ذلك مع أنا بينا أنه ليس بصواب.
إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه عليه السلام حكى ذلك عن اليهود لا أنه حكاه عن الله تعالى أو عن نفسه، والرسول عليه السلام كان قد ذكر هذه الحكاية إلا أن الراوي حين دخل ما سمع إلا هذا الكلام، فظن أنه عليه السلام ذكره عن نفسه لا عن اليهود.
وثانيها: أنه قال: فحج آدم منصوبًا أي أن موسى عليه السلام غلبه وجعله محجوبًا وأن الذي أتى به آدم ليس بحجة ولا بعذر.
وثالثها: وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية، ولا الاعتذار منه بعلم الله بل موسى عليه السلام سأله عن السبب الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة، فقال آدم: إن خروجي من الجنة لم يكن بسبب تلك الزلة، بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب عليّ أن أخرج من الجنة إلى الأرض وأكون خليفة فيها، وهذا المعنى كان مكتوبًا في التوراة، فلا جرم كانت حجة آدم قوية وصار موسى عليه السلام في ذلك كالمغلوب واعلم أن الكلام في هذه المسألة طويل جدًا والقرآن مملوء منه وسنستقصي القول فيها في هذا التفسير إن قدر الله تعالى ذلك؛ وفيما ذكرنا هاهنا كفاية. اهـ.